الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء التاسع الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: صَيَّرَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِوَامًا لِلنَّاسِ الَّذِينَ لَا قِوَامَ لَهُمْ مِنْ رَئِيسٍ يَحْجِزُ قَوِيَّهُمْ عَنْ ضَعِيفِهِمْ، وَمُسِيئَهُمْ عَنْ مُحْسِنِهِمْ، وَظَالِمَهُمْ عَنْ مَظْلُومِهِمْ “ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، فَحَجَزَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِيَامٌ غَيْرُهُ، وَجَعَلَهَا مَعَالِمَ لِدِينِهِمْ، وَمَصَالِحَ أُمُورِهِمْ. وَ “ الْكَعْبَةُ “، سُمِّيَتْ فِيمَا قِيلَ “ كَعْبَةً “ لِتَرْبِيعِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ “ الْكَعْبَةَ “، لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ “ الْكَعْبَةُ “، لِتَرْبِيعِهَا. وَقِيلَ “ قِيَامًا لِلنَّاسِ “ بِالْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، لِكَسْرَةِ الْقَافِ، وَهِيَ “ فَاءُ “ الْفِعْلِ، فَجُعِلَتِ “ الْعَيْنُ “ مِنْهُ بِالْكَسْرَةِ “ يَاءً “، كَمَا قِيلَ فِي مَصْدَرِ: “ قُمْتُ “ “ قِيَامًا “ وَ“ صُمْتُ “ “ صِيَامًا “، فَحُوِّلَتِ “ الْعَيْنُ “ مِنَ الْفِعْلِ: وَهِيَ “ وَاوٌ “ “ يَاءً “ لِكَسْرَةِ فَائِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ: “ قُمْتُ قِوَامًا “، وَ“ صُمْتُ صِوَامًا “، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “ {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} “، فَحُوِّلَتْ، وَاوُهَا يَاءً، إِذْ هِيَ “ قِوَامٌ “. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَقُولًا عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ قَالَ الرَّاجِزُ: قِوَامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِينٍ فَجَاءَ بِهِ بِالْوَاوِ عَلَى أَصْلِهِ. وَجَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْكَعْبَةَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِوَامًا لِمَنْ كَانَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ وَيُعَظِّمُهُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ أَمْرَ تُبَّاعِهِ. وَأَمَّا “ الْكَعْبَةُ “، فَالْحَرَمُ كُلُّهُ. وَسَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى “ حَرَامًا “، لِتَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا أَنْ يُصَادَ صَيْدُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا، أَوْ يُعْضَدَ شَجَرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: “ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ أَيْضًا قِيَامًا لِلنَّاسِ، كَمَا جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لَهُمْ قِيَامًا. وَ “ النَّاسُ “ الَّذِينَ جَعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ قِيَامًا، مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ عَنَى بِهِ الْعَرَبَ خَاصَّةً. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ “ الْقِوَامِ “، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ“، الْقِوَامَ، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَنْ سَمِعَ خُصَيْفًا يُحَدِّثُ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ “، قَالَ: قِوَامًا لِلنَّاسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: “ قِيَامًا لِلنَّاسِ “، قَالَ: صَلَاحًا لِدِينِهِمْ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ “، قَالَ: حِينَ لَا يَرْجُونَ جَنَّةً وَلَا يَخَافُونَ نَارًا، فَشَدَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. حَدَّثَنِي هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ “، قَالَ: شِدَّةً لِدِينِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ “، قَالَ: قِيَامُهَا، أَنْ يَأْمَنَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، يَعْنِي قِيَامًا لِدِينِهِمْ، وَمَعَالِمَ لِحَجِّهِمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ، هُوَ قِوَامُ أَمْرِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِنْ قَائِلِيهَا أَلْفَاظُهَا، فَإِنَّ مَعَانِيَهَا آيِلَةٌ إِلَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، مِنْ أَنَّ “ الْقِوَامَ “ لِلشَّيْءِ، هُوَ الَّذِي بِهِ صَلَاحُهُ، كَمَا الْمَلِكُ الْأَعْظَمُ، قِوَامُ رَعَيَّتِهِ وَمَنْ فِي سُلْطَانِهِ، لِأَنَّهُ مُدَبِّرُ أَمْرِهِمْ، وَحَاجِزُ ظَالِمِهِمْ عَنْ مَظْلُومِهِمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ مَكْرُوهَ مَنْ بَغَاهُمْ وَعَادَاهُمْ. وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْكَعْبَةُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ، قِوَامَ أَمْرِ الْعَرَبِ الَّذِي كَانَ بِهِ صَلَاحُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَهْلِهِ مَعَالِمُ حَجِّهِمْ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَمُتَوَجَّهُهُمْ لِصَلَاتِهِمْ، وَقِبْلَتُهُمُ الَّتِي بِاسْتِقْبَالِهَا يَتِمُّ فَرْضُهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَتْ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلِّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُقَرَّبْ. وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ. وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْبَيْتَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شِعْرٍ فَأَحْمَتْهُ وَمَنَعَتْهُ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ إِذَا نَفَرَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنَ الْإِذْخِرِ أَوْ مِنْ لِحَاءِ السَّمُرِ، فَمَنَعَتْهُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُهُ، حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ “، قَالَ: كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِمْ مُلُوكٌ تَدْفَعُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ مُلُوكٌ تَدْفَعُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا، يُدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِهِ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَالْقَلَائِدِ. قَالَ: وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَخِيهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ نُسِخَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ وَالْقَلَائِدَ “، كَانَ نَاسٌ يَتَقَلَّدُونَ لِحَاءَ الشَّجَرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ، فَيُعْرَفُونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ ذِكْرِ: “ الشَّهْرِ الْحَرَامِ “ وَ“ الْهَدْيِ “ وَ“ الْقَلَائِدِ “، فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: “ ذَلِكَ “، تَصْيِيرَهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: صَيَّرْتُ لَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، ذَلِكَ قِيَامًا، كَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ لَكُمْ لِمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ مَا أَحْدَثَ، مِمَّا بِهِ قَوَامُكُمْ، عِلْمًا مِنْهُ بِمَنَافِعِكُمْ وَمَضَارُّكُمْ، أَنَّهُ كَذَلِكَ يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُ عَاجِلِكُمْ وَآجِلِكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ “ عَلِيمٌ “، لَا يُخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَهُوَ مُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَ الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ مِنْكُمْ بِإِسَاءَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اعْلَمُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سَرَائِرِ أَعْمَالِكُمْ وَعَلَانِيَتِهَا، وَهُوَ يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ لَمُجَازِيكُمْ بِهَا، شَدِيدٌ عِقَابُهُ مَنْ عَصَاهُ وَتَمَرَّدَ عَلَيْهِ، عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ غَفُورٌ لِذُنُوبِ مَنْ أَطَاعَهُ وَأَنَابَ إِلَيْهِ، فَسَاتِرٌ عَلَيْهِ، وَتَارِكٌ فَضِيحَتَهُ بِهَا رَحِيمٌ بِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ بَعْدَ إِنَابَتِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَهْدِيدٌ لِعِبَادِهِ وَوَعِيدٌ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَى رَسُولِنَا الَّذِي أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، بِإِنْذَارِكُمْ عِقَابَنَا بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَإِعْذَارِنَا إِلَيْكُمْ بِمَا فِيهِ قَطْعُ حُجَجِكُمْ إِلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْكُمْ رِسَالَتَنَا، ثُمَّ إِلَيْنَا الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَيْنَا الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ “ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ “، يَقُولُ: وَغَيْرُ خَفِيٍّ عَلَيْنَا الْمُطِيعُ مِنْكُمْ، الْقَابِلُ رِسَالَتَنَا، الْعَامِلُ بِمَا أَمَرْتُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي الْآبِّي رِسَالَتَنَا، التَّارِكُ الْعَمَلَ بِمَا أَمَرْتُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ مَا عَمِلَهُ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فَأَظْهَرَهُ بِجَوَارِحِهِ وَنَطَقَ بِهِ بِلِسَانِهِ “ وَمَا تَكْتُمُونَ “، يَعْنِي: مَا تُخْفُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، أَوْ يَقِينٍ وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ضَمَائِرِ الصُّدُورِ، وَظَوَاهِرِ أَعْمَالِ النُّفُوسِ، مِمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَبِيَدِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَحَقِيقٌ أَنْ يُتَّقَى، وَأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْ يَا مُحَمَّدُ: لَا يَعْتَدِلُ الرَّدِيءُ وَالْجَيِّدُ، وَالصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ “، يَقُولُ: لَا يَعْتَدِلُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعُ لِلَّهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَوْ كَثُرَ أَهْلُ الْمَعَاصِى فَعَجِبْتَ مِنْ كَثْرَتِهِمْ، لِأَنَّ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِثَوَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قَلُّوا، دُونَ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَإِنَّ أَهْلَ مَعَاصِيهِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ الْخَائِبُونَ وَإِنْ كَثُرُوا. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَعْجَبَنَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ فَيُمْهِلُهُ وَلَا يُعَاجِلُهُ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ الْعُقْبَى الصَّالِحَةَ لِأَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ دُونَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، “ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ “، قَالَ: الْخَبِيثُ، هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَ“ الطَّيِّبُ “، هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ الْخَطَّابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: “ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاتَّقَوْا اللَّهَ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ بِإِعْجَابِكُمْ كَثْرَةَ الْخَبِيثِ، فَتَصِيرُوا مِنْهُمْ “ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ “، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْعُقُولِ وَالْحِجَى، الَّذِينَ عَقَلُوا عَنِ اللَّهِ آيَاتِهِ، وَعَرَفُوا مَوَاقِعَ حُجَجِهِ. “ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ “، يَقُولُ: اتَّقَوْا اللَّهَ لِتَفْلَحُوا، أَيْ: كَيْ تَنْجَحُوا فِي طَلَبِكُمْ مَا عِنْدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مَسَائِلَ كَانَ يَسْأَلُهَا إِيَّاهُ أَقْوَامٌ، امْتِحَانًا لَهُ أَحْيَانًا، وَاسْتِهْزَاءً أَحْيَانًا. فَيَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ: “ مَنْ أَبِي “؟ وَيَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ: “ أَيْنَ نَاقَتِي “؟ فَقَالَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَمَسْأَلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ إِيَّاهُ مَنْ أَبَوْهُ “ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “، يَقُولُ: إِنْ أَبْدَيْنَا لَكُمْ حَقِيقَةَ مَا تَسْأَلُونَ عَنْهُ، سَاءَكُمْ إِبْدَاؤُهَا وَإِظْهَارُهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ بُغَيْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ قَالَ: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي سَلِيمٍ: هَلْ تَدْرِي فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “؟ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَقَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: “ مَنْ أَبِي “؟ وَالرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ فَيَقُولُ: “ أَيْنَ نَاقَتِي “؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو دَاوُدَ قَالَا حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سَأَلَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: “ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُ لَكُمْ! قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَأَرَى كُلَّ إِنْسَانٍ لَافًّا ثَوْبَهُ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى يُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: “ أَبُوكَ حُذَافَةُ “! قَالَ: فَأَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ لَمْ أَرَ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ! إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِط»! وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: “ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٌ الْبَحْرَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ، «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: “ أَبُوكَ فُلَانٌ “! قَالَ: فَنَزَلَتْ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “.» حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “، قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: “ لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ! فَأَشْفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَمْرٌ قَدْ حَضَرَ، فَجَعَلْتُ لَا أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا إِلَّا وَجَدْتُ كُلًّا لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. فَأَنْشَأَ رَجُلٌ كَانَ يُلَاحَى فَيُدْعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: “ أَبُوكَ حُذَافَةُ “! قَالَ: ثُمَّ قَامَ عُمَرُ أَوْ قَالَ: فَأَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا عَائِذًا بِاللَّهِ أَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ! قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ أَرَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِط». حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، قَالَ: سَأَلْتُ «عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “، قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ قَامَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ! قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ مَقَامَهُ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة». حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَزَلَتْ: “ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ "، فِي رَجُلٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ فُلَان». حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَكْثَرُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ مُغْضِبًا خَطِيبًا فَقَالَ: سَلُونِي، فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ! فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ وَقَالَ: سَلُونِي! فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ كَثُرَ بُكَاؤُهُمْ، فَجَثَا عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ، قَالَ أَنَسٌ مِثْلَ ذَلِكَ: فَجَثَا عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِط»، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ الزُّهْرِيُّ، فَقَالَتْأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ قَطُّ! أَتَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحُهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ!! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} “، قَالَ: «غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: سَلُونِي، فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا نَبَّأْتُكُمْ بِهِ! فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي سَهْمٍ، يُقَالُ لَهُ “ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ “، وَكَانَ يُطْعَنُ فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ فُلَانٌ! فَدَعَاهُ لِأَبِيهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَبَّلَ رِجْلَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِكَ نَبِيًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، فَاعْفُ عَنَّا عَفَا اللَّهُ عَنْكَ! فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ: “ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ “.» حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانَ مُحْمَارٌّ وَجْهُهُ! حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَقَامَ آخَرٌ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ! فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللَّهِ يَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا! قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَنَزَلَتْ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “.» وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَةِ سَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فِي أَمْرِ الْحَجِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ الْأَسَدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} سُورَةُ آلِ عِِمْرَانَ: 97]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ. ثُمَّ قَالُوا: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: لَا وَلَوْ قُلْتُ: “ نَعَمْ “ لَوَجَبَتْ “! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “.» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «“ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ! فَقَالَ رَجُلٌ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى عَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: مَنِ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ! فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ “ نَعَمْ “ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْكُمْ مَا أَطَقْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “»، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ، سَمِعْتُ أَبِي قَالَ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ. فَقَامَ مِحْصَنٌ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “ أَمَا إِنِّي لَوْ قُلْتُ “ نَعَمْ “ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ، اسْكُتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “»، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَامَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ. حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْغَمْرِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُطِيعٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنِي سَلِيمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ! “ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: فَغَلِقَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْكَتَ وَاسْتَغْضَبَ، فَمَكَثَ طَوِيلًا ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: مَنِ السَّائِلُ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَنَا ذَا! فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَاذَا يُؤْمِنُكَ أَنَّ قَوْلَ “ نَعَمْ “، وَلَوْ قُلْتُ “ نَعَمْ “ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ! أَلَا إِنَّهُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَئِمَّةُ الْحَرَجِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَحْلَلْتُ لَكُمْ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْهَا مَوْضِعَ خُفٍّ، لَوَقَعْتُمْ فِيهِ! قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ “»، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} “، وَذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: “ يَا قَوْمُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ! “ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَأُغْضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قُلْتُ “ نَعَمْ “ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذًا لَكَفَرْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهَوْا عَنْهُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “، نَهَاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلَتْ النَّصَارَى مِنَ الْمَائِدَةِ، فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ. فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنِ انْتَظَرُوا، فَإِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَه». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} “، قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ آيَةُ الْحَجِّ، نَادَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَامًا وَاحِدًا أَمْ كُلَّ عَامٍ؟، فَقَالَ: لَا بَلْ عَامًا وَاحِدًا، وَلَوْ قُلْتُ “ كُلَّ عَامٍ “، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “»، قَالَ: سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَوَعَظَهُمْ فَانْتَهَوْا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} “، قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ، فَقِيلَ: أَوَاجِبٌ هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا لَوْ قَلْتُهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمْ، وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوا لَكَفَرْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: سَلُونِي، فَلَا يَسْأَلُنِي رَجُلٌ فِي مَجْلِسِي هَذَا عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي عَنْ أَبِيهِ! فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ، رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِه». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ “ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ “، قَالَ: هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ كَذَا وَلَا كَذَ قَالَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْآيَاتِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: “ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ “. قَالَ: فَقُلْتُ قَدْ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ بِخِلَافِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمَا لَكَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: هَيْهَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُوَ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَبِي وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ إِكْثَارِ السَّائِلِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، كَمَسْأَلَةِ ابْنِ حُذَافَةَ إِيَّاهُ مَنْ أَبَوْهُ، وَمَسْأَلَةِ سَائِلِهِ إِذْ قَالَ: “ اللَّهُ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ “، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَعَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَوْلٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَلَكِنِ الْأَخْبَارَ الْمُتَظَاهِرَةَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ بِخِلَافِهِ، وَكَرِهْنَا الْقَوْلَ بِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ كَانْتُ فِيمَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي كَرِهَ اللَّهُ لَهُمُ السُّؤَالَ عَنْهَا، كَمَا كَرِهَ اللَّهُ لَهُمُ الْمَسْأَلَةَ عَنِ الْحَجِّ: “ أَكُلَّ عَامٍ هُوَ، أَمْ عَامًا وَاحِدًا “؟ وَكَمَا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَسْأَلَتَهُ عَنْ أَبِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، فَأَخْبَرَ كُلَّ مُخْبَرٍ مِنْهُمْ بِبَعْضِ مَا نَزَلَتِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَجَلِ غَيْرِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصِّحَّةِ، لِأَنَّ مَخَارِجَ الْأَخْبَارِ بِجَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي ذُكِرَتْ صِحَاحٌ، فَتَوْجِيهُهَا إِلَى الصَّوَابِ مِنْ وُجُوهِهَا أَوْلَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِينِ نَهَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْهُ، مِنْ فَرَائِضَ لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَحْلِيلِ أُمُورٍ لَمْ يُحَلِّلْهَا لَهُمْ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ السَّائِلُونَ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ رَسُولِي مِمَّا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ كِتَابًا وَلَا وَحْيًا، لَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَكُمْ تِبْيَانٌ بِوَحْيٍ وَتَنْزِيلٍ سَاءَكُمْ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ بِذَلِكَ إِذَا جَاءَكُمْ إِنَّمَا يَجِيئُكُمْ بِمَا فِيهِ امْتِحَانُكُمْ وَاخْتِبَارُكُمْ، إِمَّا بِإِيجَابِ عَمَلٍ عَلَيْكُمْ، وَلُزُومٍ فَرْضٍ لَكُمْ، وَفِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشَقَّةٌ وَلُزُومُ مَؤُونَةٍ وَكُلْفَةٍ وَإِمَّا بِتَحْرِيمِ مَا لَوْ لَمْ يَأْتِكُمْ بِتَحْرِيمِهِ وَحْيٌ، كُنْتُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ فِي فُسْحَةٍ وَسِعَةٍ وَإِمَّا بِتَحْلِيلِ مَا تَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ، وَفِي ذَلِكَ لَكُمْ مَسَاءَةٌ لِنَقْلِكُمْ عَمَّا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ حَقًّا إِلَى مَا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ بَاطِلًا وَلَكِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْهَا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَبَعْدَ ابْتِدَائِكُمْ بِبَيَانِ أَمْرِهَا فِي كِتَابِي إِلَى رَسُولِي إِلَيْكُمْ، لَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مَا أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَانِ كِتَابِي، وَتَأْوِيلِ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي وَذَلِكَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي:- حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وَتَرَكَ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ لَمْ يَحِلَّهَا وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ عَفَاهُ. ثُمَّ يَتْلُو: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ وَأَحَلَّ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا “ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ مَسْأَلَتِكُمْ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلْتُمْ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَرِهَ اللَّهُ لَكُمْ مَسْأَلَتَكُمْ إِيَّاهُ عَنْهَا، أَنْ يُؤَاخِذَكُمْ بِهَا، أَوْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَيْهَا، إِذْ عَرَفَ مِنْهَا تَوْبَتَكُمْ وَإِنَابَتَكُمْ “ وَاللَّهُ غَفُورٌ “، يَقُولُ: وَاللَّهُ سَاتِرٌ ذُنُوبَ مَنْ تَابَ مِنْهَا، فَتَارِكٌ أَنْ يَفْضَحَهُ فِي الْآخِرَةِ “ حَلِيمٌ “ [ذُو أَنَاةٍ عَنْ] أَنْ يُعَاقِبَهُ بِهَا، لِتَغَمُّدِهُ التَّائِبَ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ، وَعَفْوِهِ، عَنْ عُقُوبَتِهِ عَلَيْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ “، يَقُولُ: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ فِيهَا بِتَغْلِيظٍ سَاءَكُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنِ انْتَظَرُوا، فَإِذَا نُزِّلَ الْقُرْآنُ فَإِنَّكُمْ لَا تَسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْتُمْ تِبْيَانَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَدْ سَأَلَ الْآيَاتِ قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ، فَلَمَّا آتَاهُمُوهَا اللَّهُ أَصْبَحُوا بِهَا جَاحِدِينَ، مُنْكِرِينَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةً عَلَى حَقِيقَةِ مَا احْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا جُعِلَتْ بُرْهَانًا عَلَى تَصْحِيحِهِ كَقَوْمِ صَالِحٍ الَّذِينَ سَأَلُوا الْآيَةَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمُ النَّاقَةُ آيَةً عَقَرُوهَا وَكَاَلَّذِينِ سَأَلُوا عِيسَى مَائِدَةً تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَمَّا أُعْطُوهَا كَفَرُوا بِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَحَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَتْ بِكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَتْهُمْ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمُوهَا، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ، وَلَا تَبْحَثُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، فَقَدْ سَأَلَ الْآيَاتِ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمٌ، فَلَمَّا أُوتُوهَا أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ; حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ “، نَهَاهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلَتِ النَّصَارَى مِنَ الْمَائِدَةِ، فَأَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ “، قَدْ سَأَلَ الْآيَاتِ قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَذَلِكَ حِينَ قِيلَ لَهُ: غَيِّرْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بَحَرَ اللَّهُ بَحِيرَةً، وَلَا سَيَّبَ سَائِبَةً، وَلَا وَصَلَ وَصَيْلَةً، وَلَا حَمَى حَامِيًا وَلَكِنَّكُمُ الَّذِينَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، أَيُّهَا الْكَفَرَةُ، فَحَرَّمْتُمُوهُ افْتِرَاءً عَلَى رَبِّكُمْ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي وَشُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيَّبَ “.» حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: «يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلَا بِهِ مِنْكَ! فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَنْ يَضُرَّنِي شِبْهُهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الْحَامِي “.» حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ عَرَفْتُ أَوَّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ، رَجُلٌ مِنْ مُدْلِجٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، وَقَالَ: هَاتَانِ لِلَّهِ! ثُمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا، فَشَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ قُصْبِه». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرُو بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَأَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ أَكْثَمُ بْنُ الْجَوْنِ! فَقَالَ أَكْثَمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَضُرُّنِي شِبْهُهُ؟ قَالَ: “ لَا لِأَنَّكَ مُسْلِمٌ، وَإِنَّهُ كَافِرٌ “.» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيِّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِب». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ ! قَالُوا: مَنْ هُوَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أَخُو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي رِيحُهُ أَهْلَ النَّارِ. وَإِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ! قَالُوا: مَنْ هُوَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَجُلٌ مَنْ بَنِي مُدْلِجٍ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ هُوَ، وَهُمَا يَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا، وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا». وَ “ الْبَحِيرَةُ “ الْفَعِيلَةُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ بَحَرْتُ أُذُنَ هَذِهِ النَّاقَةِ “، إِذَا شَقَّهَا، “ أَبْحُرُهَا بَحْرًا “، وَالنَّاقَةُ “ مَبْحُورَةٌ “، ثُمَّ تُصَرَّفُ “ الْمَفْعُولَةُ “ إِلَى “ فَعِيلَةٍ “، فَيُقَالُ: “ هِيَ بَحِيرَةٌ “. وَأَمَّا “ الْبَحِرُ “ مِنَ الْإِبِلِ فَهُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُ دَاءٌ مِنْ كَثْرَةِ شُرْبِ الْمَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: “ بَحِرَ الْبَعِيرُ يَبْحَرُ بَحَرًا “، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَأَعْلِطَنَّهُ وَسْمًا لَا يُفَارِقُهُ *** كَمَا يُحَزُّ بِحَمْيِ الْمِيسَمِ الْبَحِرُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى “ الْبُحَيْرَةِ “، جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِبِلَكَ أَلَسْتَ تُنْتِجُهَا مُسَلَّمَةً آذَانُهَا، فَتَأْخُذُ الْمُوسَى فَتَجْدَعُهَا، تَقُولُ: “ هَذِهِ بَحِيرَةٌ “، وَتَشُقُونَ آذَانَهَا، تَقُولُونَ: “ هَذِهِ صَرْمٌ “؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنَّ سَاعِدَ اللَّهِ أَشُدُّ، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ! كُلُّ مَالِكٍ لَكَ حَلَالٌ، لَا يُحَرَّمُ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْء». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلْ تُنْتَجُ إِبِلُ قَوْمِكَ صِحَاحًا آذَانُهَا، فَتَعْمِدُ إِلَى الْمُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَهَا فَتَقُولُ: “ هَذِهِ بُحْرٌ “، وَتَشُقُّهَا أَوْ تَشُقُّ جُلُودَهَا فَتَقُولُ: “ هَذِهِ صُرُمٌ “، فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَإِنَّ مَا آتَاكَ اللَّهُ لَكَ حِلٌّ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشُدُّ، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ وَرُبَّمَا قَالَ: سَاعِدُ اللَّهِ أَشُدُّ مِنْ سَاعِدِكَ، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ مِنْ مُوسَاك». وَأَمَّا “ السَّائِبَةُ “: فَإِنَّهَا الْمُسَيَّبَةُ الْمُخَلَّاةُ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُهُمْ بِبَعْضِ مَوَاشِيهِ، فَيُحَرِّمُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُعْتِقُ عَبْدَهُ سَائِبَةً، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا بِوَلَائِهِ. وَأَخْرَجَتِ “ الْمُسَيَّبَةُ “ بِلَفْظِ “ السَّائِبَةِ “، كَمَا قِيلَ: “ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ “، بِمَعْنَى: مَرْضِيَّةٌ. وَأَمَّا “ الْوَصِيلَةُ “، فَإِنَّ الْأُنْثَى مِنْ نَعَمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ إِذَا أَتْأَمَتْ بَطْنًا بِذَكَرٍ وَأُنْثَى، قِيلَ: “ قَدْ وَصَلَتِ الْأُنْثَى أَخَاهَا “، بِدَفْعِهَا عَنْهُ الذَّبْحَ، فَسَمَّوْهَا “ وَصِيلَةً “. وَأَمَّا “ الْحَامِي “، فَإِنَّهُ الْفَحْلُ مِنَ النَّعَمِ يُحْمَى ظَهْرَهُ مِنَ الرُّكُوبِ وَالِانْتِفَاعِ، بِسَبَبِ تَتَابُعِ أَوْلَادٍ تَحْدُثُ مِنْ فِحْلَتِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَاتِ الْمُسَمَّيَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَمَا السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ: أَنْ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ: «يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلَا بِهِ مِنْكَ! فَقَالَ أَكْثَمُ: أَيُضُرُّنِي شِبْهُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَ فِيهِم». وَذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إِنَاثٍ لَيْسَ فِيهَا ذَكَرٌ، سُيِّبَتْ فَلَمْ يَرَكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ. فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّ أُذُنُهَا، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا فِي الْإِبِلِ، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ “ الْبَحِيرَةُ “ ابْنَةُ “ السَّائِبَةِ “. وَ “ الْوَصِيلَةُ “، أَنَّ الشَّاةَ إِذَا نُتِجَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنُ لَيْسَ فِيهِنَّ ذَكَرٌ، جُعِلَتْ “ وَصِيلَةً “، قَالُوا: “ وَصَلَتْ “، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ إِنَاثِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ، ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ. وَ “ الْحَامِي “ أَنَّ الْفَحْلَ إِذَا نُتِجَ لَهُ عَشْرُ إِنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، حَمَى ظَهْرَهُ وَلَمْ يُرَكَبْ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ، وَيُخَلَّى فِي إِبِلِهِ يَضْرِبُ فِيهَا، لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “ إِلَى قَوْلِهِ: “ وَلَا يَهْتَدُونَ “. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَقَطَ عَلَيَّ فِيمَا أَظُنُّ كَلَامٌ مِنْهُ قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلْقَمَةَ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَى شَيْءٍ كَانَ يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَلْقَمَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا؟ إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ! قَالَ: فَأَتَيْتُ مَسْرُوقًا فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: “ الْبَحِيرَةُ “، كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ بَطْنًا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، شَقُّوا أُذُنَهَا، وَقَالُوا: “ هَذِهِ بَحِيرَةٌ “ قَالَ: “ وَلَا سَائِبَةٍ “، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ بَعْضَ مَالِهِ فَيَقُولُ: “ هَذِهِ سَائِبَةٌ “ قَالَ: “ وَلَا وَصِيلَةٍ “، قَالَ: كَانُوا إِذَا وَلَدَتِ النَّاقَةُ الذَّكَرَ أَكَلَهُ الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ، وَإِذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى فِي بَطْنٍ قَالُوا: “ وَصَلَتْ أَخَاهَا “، فَلَا يَأْكُلُونَهُمَا. قَالَ: فَإِذَا مَاتَ الذَّكَرُ أَكَلَهُ الذُّكُورُ دُونَ الْإِنَاثِ قَالَ: “ وَلَا حَامٍ “، قَالَ: كَانَ الْبَعِيرُ إِذَا وَلَدَ وَوَلَدَ وَلَدُهُ، قَالُوا: “ قَدْ قَضَى هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ “، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِظَهْرِهِ. قَالُوا: “ هَذَا حِمًى “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَلْقَمَةَ عَنْ قَوْلِهِ: “مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ “، قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهَذَا؟ هَذَا شَيْءٌ كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ “، قَالَ: الْبَحِيرَةُ: الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ ثُمَّ تَرَكَتْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: “مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ “. قَالَ: الْبَحِيرَةُ، الْمُخَضْرَمَةُ “ وَلَا سَائِبَةٍ “، وَالسَّائِبَةُ: مَا سُيِّبَ لِلْعِدَى وَ“ الْوَصِيلَةُ “، إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْطُنٍ فِيمَا يَرَى جَرِيرٌ ثُمَّ وَلَدَتِ الْخَامِسَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَصَلَتْ أَخَاهَا وَ“ الْحَامِ “، الَّذِي قَدْ ضَرَبَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فِي الْإِبِلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، بِنَحْوِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَ“ الْوَصِيلَةُ “ الَّتِي وَلَدَتْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَبْطُنٍ ذَكَرًا وَأُنْثَى، قَالُوا: “ وَصَلَتْ أَخَاهَا “، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ حُمَيْدٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ “ الْبَحِيرَةِ “، فَقَالَ: هِيَ الَّتِي تُجْدَعُ آذَانُهَا. وَسُئِلَ عَنِ “ السَّائِبَةِ “، فَقَالَ: كَانُوا يَهْدُونَ لِآلِهَتِهِمُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَيَتْرُكُونَهَا عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، فَتَذْهَبُ فَتَخْتَلِطُ بِغَنَمِ النَّاسِ، فَلَا يَشْرَبُ أَلْبَانَهَا إِلَّا الرِّجَالُ، فَإِذَا مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ “ وَمَا مَعَهَا: “ الْبَحِيرَةُ “، مِنَ الْإِبِلِ يُحَرِّمُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَرَهَا وَظَهْرَهَا وَلَحْمَهَا وَلَبَنَهَا إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهَا، وَإِنْ مَاتَتِ اشْتَرَكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي أَكْلِ لَحْمِهَا. فَإِذَا ضَرَبَ الْجَمَلُ مِنْ وَلَدِ الْبَحِيرَةِ، فَهُوَ “ الْحَامِي “. وَ“ الْحَامِي “، اسْمٌ. وَ“ السَّائِبَةُ “ مِنَ الْغَنَمِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا مَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِتَّةِ أَوْلَادٍ، كَانَ عَلَى هَيْئَتِهَا. فَإِذَا وَلَدَتْ فِي السَّابِعِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرَيْنِ، ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَهُ رِجَالُهُمْ دُونَ نِسَائِهِمْ. وَإِنْ تَوْأَمَتْ أُنْثَى وَذَكَرًا فَهِيَ “ وَصِيلَةٌ “، لِتَرْكِ ذَبْحِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى. وَإِنْ كَانَتَا أُنْثَيَيْنِ تَرَكَتَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ “، فَالْبَحِيرَةُ، النَّاقَةُ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى الْخَامِسَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ سَقْبًا، فَيَبْتِكُ آذَانَهَا، وَلَا يَجُزُّ لَهَا وَبَرًا، وَلَا يَذُوقُ لَهَا لَبَنًا، فَتِلْكَ “ الْبَحِيرَةُ “ “ وَلَا سَائِبَةٍ “، كَانَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ “ وَلَا وَصِيلَةٍ “، فَهِيَ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعًا، عَمَدَ إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ذُبِحَ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا اثْنَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَوَلَدَتْهُمَا، قَالُوا: “ وَصَلَتْ أَخَاهَا “، فَيُتْرَكَانِ جَمِيعًا لَا يُذْبَحَانِ. فَتِلْكَ “ الْوَصِيلَةُ “ وَقَوْلُهُ: “ وَلَا حَامٍ “، كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْفَحْلُ، فَإِذَا لَقَّحَ عَشْرًا قِيلَ: “ حَامٍ، فَاتْرُكُوهُ “. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ “، لِيُسَيِّبُوهَا لِأَصْنَامِهِمْ “ وَلَا وَصِيلَةٍ “، يَقُولُ: الشَّاةُ “ وَلَا حَامٍ “ يَقُولُ: الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، تَشْدِيدٌ شَدَّدَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَتَغْلِيظٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَتِ “ الْبَحِيرَةُ “ مِنَ الْإِبِلِ، إِذَا نُتِجَ الرَّجُلُ خَمْسًا مِنْ إِبِلِهِ، نَظَرَ الْبَطْنَ الْخَامِسَ، فَإِنْ كَانَتْ سَقْبًا ذُبِحَ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً اشْتَرَكَ فِيهِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَهِيَ الْأُنْثَى تُرِكَتْ، فَبُتِكَتْ أُذُنُهَا، فَلَمْ يُجَزَّ لَهَا وَبَرٌ، وَلَمْ يُشْرَبْ لَهَا لَبَنٌ، وَلَمْ يُرْكَبْ لَهَا ظَهْرٌ، وَلَمْ يُذْكَرْ لِلَّهِ عَلَيْهَا اسْمٌ. وَكَانَتِ “ السَّائِبَةُ “، يُسَيِّبُونَ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا تُمْنَعُ مِنْ حَوْضٍ أَنْ تَشْرَعَ فِيهِ، وَلَا مِنْ حِمًى أَنْ تَرْتَعَ فِيهِ وَكَانَتِ “ الْوَصِيلَةُ “ مِنَ الشَّاءِ، مِنَ الْبَطْنِ السَّابِعِ، إِذَا كَانَ جَدْيًا ذُبِحَ فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ. وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً اشْتُرِكَ فِيهِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ. وَإِنْ جَاءَتْ بِذَكَرٍ وَأُنْثَى قِيلَ: “ وَصَلَتْ أَخَاهَا فَمَنَعَتْهُ الذَّبْحَ “ وَ“ الْحَامِ “، كَانَ الْفَحْلُ إِذَا رَكَبَ مِنْ بَنِي بَنِيهِ عَشْرَةً، أَوْ وَلَدَ وَلَدُهُ، قِيلَ: “حَامٍ حَمَى ظَهْرَهُ “، فَلَمْ يُزَمَّ وَلَمْ يُخْطَمْ وَلَمْ يُرْكَبْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، فَالْبَحِيرَةُ مِنَ الْإِبِلِ، كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، إِنْ كَانَ الْخَامِسُ سَقْبًا ذَبَحُوهُ فَأَهْدَوْهُ إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ عُرْضِ الْإِبِلِ. وَإِنْ كَانَتْ رُبَعَةً اسْتَحْيَوْهَا، وَشَقُّوا أُذُنَ أُمِّهَا، وَجَزُّوا وَبَرَهَا، وَخَلَّوْهَا فِي الْبَطْحَاءِ، فَلَمْ تَجُزْ لَهُمْ فِي دِيَةٍ، وَلَمْ يَحْلِبُوا لَهَا لَبَنًا، وَلَمْ يَجُزُّوا لَهَا وَبَرًا، وَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَى ظَهْرِهَا، وَهِيَ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، وَأَمَّا “ السَّائِبَةُ “، فَهُوَ الرَّجُلُ يُسَيِّبُ مِنْ مَالِهِ مَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ إِنْ كَثُرَ مَالُهُ أَوْ بَرِئَ مِنْ وَجَعٍ، أَوْ رَكِبَ نَاقَةً فَأَنْجَحَ، فَإِنَّهُ يُسَمِّي “ السَّائِبَةَ “ يُرْسِلُهَا فَلَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا أَصَابَتْهُ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا وَأَمَّا “ الْوَصِيلَةُ “، فَمِنَ الْغَنَمِ، هِيَ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ أَوْ خَمْسَةً، فَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ جَدْيًا، ذَبَحُوهُ وَأَهْدَوْهُ لِبَيْتِ الْآلِهَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَنَاقًا اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَدْيًا وَعَنَاقًا اسْتَحْيَوُا الْجَدْيَّ مِنْ أَجْلِ الْعَنَاقِ، فَإِنَّهَا وَصِيلَةٌ وَصَلَتْ أَخَاهَا وَأَمَّا “ الْحَامِ “، فَالْفَحْلُ يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ عَشْرَ سِنِينَ وَيُقَالُ: إِذَا ضَرَبَ وَلَدُ وَلَدِهُ قِيلَ: “ قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ “، فَيَتْرُكُونَهُ لَا يُمَسُّ وَلَا يُنْحَرُ أَبَدًا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ يُرِيدُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِهِ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، قَالَ: “ الْبَحِيرَةُ “ مِنَ الْإِبِلِ، الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَ“ السَّائِبَةُ “ مِنَ الْإِبِلِ، كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ وَ“ الْوَصِيلَةُ “، مِنَ الْإِبِلِ، كَانَتِ النَّاقَةُ تَبْتَكِرُ بِأُنْثَى، ثُمَّ تُثَنَّى بِأُنْثَى، فَيُسَمُّونَهَا “ الْوَصِيلَةَ “، يَقُولُونَ: “ وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذِكَرٌ “، فَكَانُوا يَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ- أَوْ: يَذْبَحُونَهَا، الشَّكُّ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ- وَ“ الْحَامِ “، الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ، كَانَ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَةَ. فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ قَالُوا: “ هَذَا حَامٍ، قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ “، فَتُرِكَ، فَسَمُّوهُ “ الْحَامِ “ قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ قَتَادَةُ، إِذَا ضَرَبَ عَشْرَةً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: “ الْبَحِيرَةُ “ مِنَ الْإِبِلِ، كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا نُتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، فَإِنْ كَانَ الْخَامِسُ ذَكَرًا، كَانَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى، بَتَكُوا آذَانَهَا ثُمَّ أَرْسَلُوهَا، فَلَمْ يَنْحَرُوا لَهَا وَلَدًا، وَلَمْ يَشْرَبُوا لَهَا لَبَنًا، وَلَمْ يَرْكَبُوا لَهَا ظَهْرًا وَأَمَّا “ السَّائِبَةُ “، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَيِّبُونَ بَعْضَ إِبِلِهِمْ، فَلَا تُمْنَعُ حَوْضًا أَنْ تَشْرَعَ فِيهِ، وَلَا مَرْعًى أَنْ تَرْتَعَ فِيهِ “ وَالْوَصِيلَةُ “، الشَّاةُ كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ، فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا، ذُبِحَ وَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَلْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، أَمَّا “ الْبَحِيرَةُ “ فَكَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجُوهَا خَمْسَةَ أَبْطُنٍ نَحَرُوا الْخَامِسَ إِنْ كَانَ سَقْبًا، وَإِنْ كَانَ رُبَعَةً شَقُّوا أُذُنُهَا وَاسْتَحْيَوْهَا، وَهِيَ “ بَحِيرَةٌ “، وَأَمَّا السَّقْبُ فَلَا يَأْكُلُ نِسَاؤُهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ خَالِصٌ لِرِجَالِهِمْ، فَإِنْ مَاتَتِ النَّاقَةُ أَوْ نَتَجُوهَا مَيْتًا، فَرِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَأَمَّا “ السَّائِبَةُ “، فَكَانَ يُسَيِّبُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ، فَيُهْمَلُ فِي الْحُمَّى، فَلَا يَنْتَفِعُ بِظَهْرِهِ وَلَا بِوَلَدِهِ وَلَا بِلَبَنِهِ وَلَا بِشِعْرِهِ وَلَا بِصُوفِهِ وَأَمَّا “ الْوَصِيلَةُ “، فَكَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ ذَبَحُوا السَّابِعَ إِذَا كَانَ جَدْيًا، وَإِنْ كَانَ عَنَاقًا اسْتَحْيَوْهُ، وَإِنْ كَانَ جَدْيًا وَعَنَاقًا اسْتَحْيَوْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَقَالُوا: “ إِنِ الْجَدْيَّ وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ، فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا “ وَأَمَّا “ الْحَامِي “، فَالْفَحْلُ إِذَا رَكِبُوا أَوْلَادَ وَلَدِهِ قَالُوا: “ قَدْ حَمَى هَذَا ظَهْرَهُ، وَأَحْرَزَهُ أَوْلَادُ وَلَدِهِ “، فَلَا يَرْكَبُونَهُ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمَى شَجَرٍ، وَلَا حَوْضٍ مَا شَرَعَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَوْضُ لِصَاحِبِهِ. وَكَانَتْ مِنْ إِبِلِهِمْ طَائِفَةٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ: لَا إِنْ رَكِبُوا، وَلَا إِنْ حَمَلُوا، وَلَا إِنْ حَلَبُوا، وَلَا إِنَّ نُتِجُوا، وَلَا إِنْ بَاعُوا. فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ “، إِلَى قَوْلِهِ: “ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ “. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: “ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ “، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ يَعْمَلُ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ ذَهَبَ. قَالَ: “ الْبَحِيرَةُ “، كَانَ الرَّجُلُ يَجْدَعُ أُذُنَيَ نَاقَتِهِ، ثُمَّ يُعْتِقُهَا كَمَا يُعْتِقُ جَارِيَتَهُ وَغُلَامَهُ، لَا تُحْلَبُ وَلَا تُرْكَبُ وَ“ السَّائِبَةُ “، يُسَيِّبُهَا بِغَيْرِ تَجْدِيعٍ وَ“ الْحَامِ “ إِذَا نَتَجَ لَهُ سَبْعَ إِنَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ، قَدْ حَمَى ظَهْرَهُ، وَلَا يُرْكَبُ، وَلَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَ“ الْوَصِيلَةُ “، مِنَ الْغَنَمِ: إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَ إِنَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ، حَمَتْ لَحْمَهَا أَنْ يُؤْكَلَ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ، قَالَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: “ السَّائِبَةُ “ الَّتِي كَانَتْ تُسَيَّبُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَ“ الْبَحِيرَةُ “، الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ وَ“ الْوَصِيلَةُ “، النَّاقَةُ الْبِكْرُ تَبْتَكِرُ أَوَّلَ نِتَاجِ الْإِبِلِ بِأُنْثَى، ثُمَّ تَثْنِي بَعْدَ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا لِلطَّوَاغِيتِ، يَدْعُونَهَا “ الْوَصِيلَةَ “، أَنْ وَصَلَتْ أَخَوَاتُهَا إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى “ وَالْحَامِي “، فَحْلُ الْإِبِلِ، يَضْرِبُ الْعَشْرَ مِنَ الْإِبِلِ. فَإِذَا نَفَضَ ضِرَابَهُ يَدْعُونَهُ لِلطَّوَاغِيتِ، وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِ شَيْئًا، وَسَمُّوهُ “ الْحَامِي “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ أُمُورٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ، فَلَا نَعِرُفُ قَوْمًا يَعْمَلُونَ بِهَا الْيَوْمَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْمَلُ بِهِ لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ أَثَرٌ، وَلَا فِي الشِّرْكِ، نَعْرِفُهُ إِلَّا بِخَبَرٍ، وَكَانَتِ الْأَخْبَارُ عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةً الِاخْتِلَافَ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَمَا بَيَّنَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ عَمَلِ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ، فَمَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ. وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِوَصْفِ عَمَلِهِمْ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدْ حَكَيْنَا، وَغَيْرُ ضَائِرٍ الْجَهْلُ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ عِلْمِهِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ، مُوَصِّلًا إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنْ أَنْعَامِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، اتِّبَاعًا مِنْهُمْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلَالٌ. فَالْحَرَامُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَنَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَصٍّ أَوْ دَلِيلٍ، وَالْحَلَالُ مِنْهُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِ “ الَّذِينَ كَفَرُوا “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: “ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ “. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنِيُّ بِ “ الَّذِينَ كَفَرُوا “ الْيَهُودُ، وَبِ “ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ “، أَهْلُ الْأَوْثَانِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى: “ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ “، قَالَ: أَهْلُ الْكِتَابِ “ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ “، قَالَ: أَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّ “ الْمُفْتَرِينَ “، الْمَتْبُوعُونَ وَ“ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ “، الْأَتْبَاعَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: “وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ“، هُمُ الْأَتْبَاعُ وَأَمَّا “ الَّذِينَ افْتَرَوْا “، فَعَقَلُوا أَنَّهُمُ افْتَرَوْا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: “ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ “، الَّذِينَ بَحَرُوا الْبَحَائِرَ، وَسَيَّبُوا السَّوَائِبَ، وَوَصَلُوا الْوَصَائِلَ، وَحَمَوْا الْحَوَامِيَ، مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَأَشْكَالِهِ مِمَّنْ سَنَّ لِأَهْلِ الشِّرْكِ السُّنَنَ الرَّدِيئَةَ، وَغَيَّرَ دِينَ اللَّهِ دِينَ الْحَقِّ، وَأَضَافُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ مَا حَرَّمُوا، وَأَحَلَّ مَا أَحَلُّوا، افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَاخْتِلَاقًا عَلَيْهِ الْإِفْكَ وَهُمْ يَفْهَمُونَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ مَا أَضَافُوا مِنْ تَحْلِيلِ مَا أَحَلُّوا وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا جَعَلْتُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ، وَلَكِنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَأَنْ يُقَالَ، إِنَّ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: “ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ “، هُمْ أَتْبَاعُ مَنْ سَنَّ لَهُمْ هَذِهِ السُّنَنَ مِنْ جَهَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ سَنُّوا ذَلِكَ لَهُمْ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ أَنَّ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ تِلْكَ السُّنَنَ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَذْبَةٌ فِي إِخْبَارِهِمْ، أَفَكَةٌ، بَلْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ مُحِقُّونَ، وَفِي إِخْبَارِهِمْ صَادِقُونَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ الَّذِي حَرَّمَهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَأَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، نَظِيرُ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: “ عَنِّي بِاَلَّذِي كَفَّرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ “، وَذَلِكَ أَنَّ النَّكِيرَ فِي ابْتِدَاءِ الْآيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَالْخَتْمُ بِهِمْ أَوْلَى مَنْ غَيْرِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَرَضَ فِي الْكَلَامِ مَا يُصْرَفُ مِنْ أَجْلِهِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ يَقُولُ قَتَادَةُ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ “، يَقُولُ: تَحْرِيمُ الشَّيْطَانِ الَّذِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَا يَعْقِلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْحَرُونَ الْبَحَائِرَ وَيُسَيِّبُونَ السَّوَائِبَ؟ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ أَنَّهُمْ بِإِضَافَتِهِمْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ: تَعَالَوْا إِلَى تَنْزِيلِ اللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، لِيَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَذِبُ قِيلِكُمْ فِيمَا تُضِيفُونَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ تَحْرِيمِكُمْ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَجَابُوا مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَنَا آبَاءَنَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: “ نَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ وَهُمْ لَنَا أَئِمَّةٌ وَقَادَةٌ، وَقَدْ اكْتَفَيْنَا بِمَا أَخَذْنَا عَنْهُمْ، وَرَضِينَا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ “. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَوْ كَانَ آبَاءُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا؟ يَقُولُ: لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا يُضِيفُونَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، كَذِبٌ وَفِرْيَةٌ عَلَى اللَّهِ، لَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ وَلَا صِحَّةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَاعَ الْمُفْتَرِينَ الَّذِينَ ابْتَدَءُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ، افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ بِقِيلِهِمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا يُضِيفُونَ وَلَا كَانُوا فِيمَا هُمْ بِهِ عَامِلُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَصَوَابٍ، بَلْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَخَطَأٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْفَأَصْلِحُوهَا، وَاعْمَلُوا فِي خَلَاصِهَا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَانْظُرُوا لَهَا فِيمَا يُقَرِّبُهَا مِنْ رَبِّهَا، فَإِنَّهُ “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ “، يَقُولُ: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ كَفَرَ وَسَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِ الْحَقِّ، إِذَا أَنْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ وَآمَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ، وَأَطَعْتُمُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَحَرَّمْتُمْ حَرَامَهُ وَحَلَلْتُمْ حَلَالَهُ. وَنُصِبَ قَوْلُهُ: “ أَنْفُسَكُمْ “ بِالْإِغْرَاءِ، وَالْعَرَبُ تُغْرِي مِنَ الصِّفَاتِ بِ “ عَلَيْكَ “ وَ“ عِنْدَكَ “، وَ“ دُونَكَ “، وَ“ إِلَيْكَ “. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} “، إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يُقْبَلْْ مِنْكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “ لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا، قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا “، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا، قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ، فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنَ عِقَالٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: لَوْ جَلَسْتَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَقُولُ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «: “ أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ “ »، فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودَ وَأَنْتُمُ الْغَيَبَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا، إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي مَازِنٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جُلُوسٌ، فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ “، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي مَازِنٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَبُو عَاصِمٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَوَّارِ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ، كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ جَلِيدٌ فِي الْعَيْنِ، شَدِيدُ اللِّسَانِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نَحْنُ سِتَّةٌ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَسْرَعَ فِيهِ، وَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ لَا يَأْلُو، وَكُلُّهُمْ بَغِيضٌ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ دَنَاءَةً، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَأَيَّ دَنَاءَةٍ تُرِيدُ، أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ! قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَسْتُ إِيَّاكَ أَسْأَلُ، أَنَا أَسْأَلُ الشَّيْخَ! فَأَعَادَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَعَلَّكَ تَرَى لَا أُبَالِكَ، إِنِّي سَآمُرُكَ أَنْ تَذْهَبَ أَنْ تَقْتُلَهُمْ! عِظْهُمْ وَانْهَهُمْ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} “. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا، إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا أَوْ قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ فَحِينَئِذٍ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ “. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ، فِي حَلْقَةٍ، فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِمْ شَيْخٌ يُسْنِدُونَ إِلَيْهِ، فَقَرَأَ رَجُلٌ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنَّمَا تَأْوِيلُهَا آخِرُ الزَّمَانِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَازِنٍ، رَجُلٌ مِنْ صَالِحِي الْأَزْدِ مِنْ بَنِي الْحُدَّانِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي حَيَاةِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَعَدْتُ إِلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هَذِهِ الْآيَةَ “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَسَنِّ الْقَوْمِ: دَعْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لِأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَاكَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ أَنَا: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: أَتَنْتَزِعُ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَعْرِفُهَا، وَلَا تَدْرِي مَا تَأْوِيلُهَا!! حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ. ثُمَّ أَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: “ إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ نَزَعْتَ بِآيَةٍ لَا تَدْرِي مَا هِيَ، وَعَسَى أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ “، قَالَ: كَانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا، فَكَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَبْدِ اللَّهِ: أَلَا أَقُومُ فَآمُرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ آخَرٌ إِلَى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “! قَالَ: فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَهْ، لَمَّا يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ! إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ، وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ عِنْدَ السَّاعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ السَّاعَةِ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْحِسَابِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً، وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً، وَلِمَ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَأْمُرُوا وَانْهَوْا. فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ، وَأُلْبَسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ......... قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: تَأَوَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: دَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَيْسَتْ لَكُمْ. حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ اللَّآلُ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جَارِيَةَ اللَّخْمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ «أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ “، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبَا ثَعْلَبَةَ، ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ! إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا مِنْكُم». حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، [عَنْ عَمْرِو بْنِ جَارِيَةَ اللَّخْمِيِّ]، «عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “؟ فَقَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ: سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ، وَذَرْ عَوَامَّهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا أَجْرُ الْعَامِلِ فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُم». وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ مَنْ ضَلَّ بَعْدَهُ وَهَلَكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ “، يَقُولُ: إِذَا مَا الْعَبْدُ أَطَاعَنِي فِيمَا أَمَرْتُهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَنْ ضَلَّ بَعْدُ، إِذَا عَمِلَ بِمَا أَمَرْتُهُ بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، يَقُولُ: أَطِيعُوا أَمْرِي، وَاحْفَظُوا وَصِيَّتِي. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنَ الْجَوْنِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى خَاصَّةِ اللَّهِ الَّتِي خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ؟ “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ “، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُطَرِّفِ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، مَا لَمْ يَكُنْ سَيْفٌ أَوْ سَوْطٌ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ، تَلَا الْحَسَنُ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، مَا كَانَ مُؤْمِنٌ فِيمَا مَضَى، وَلَا مُؤْمِنٌ فِيمَا بَقِيَ، إِلَّا وَإِلَى جَانِبِهِ مُنَافِقٌ يَكْرَهُ عَمَلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} “، فَاعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَأَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ سَعْدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: إِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: إِذَا أَمَرْتُمْ وَنَهَيْتُمْ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: “ {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} “، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ قَالَ ابْنُ وَكِيعٍ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، وَإِنَّ الْقَوْمَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، يَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} “، يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ: “ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ “، فَيَقُولُ أَحَدُكُمْ: عَلَيَّ نَفْسِي، وَاللَّهِ لِتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلْيَسُومَنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لِيَدْعُوا اللَّهَ خِيَارُكُمْ، فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا بَيَانٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا: “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ الْبَجَلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، وَالظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمً قَالَ: صَعِدَ أَبُو بَكْرٍ الْمِنْبَرَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمَدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَتَتْلُونَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَعَدُّونَهَا رُخْصَةً، وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَشَدَّ مِنْهَا: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لِيَعُمَّنَّكُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ «أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا تَدْرُونَ مَا هِيَ؟: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} “، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَاب». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ حَادَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: يَعْنِي مِنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ ضَلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ الْحَقِّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ قَالُوا لَهُ: سَفَّهْتَ آبَاءَكَ وَضَلَّلْتَهُمْ، وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ، وَجَعَلْتَ آبَاءَكَ كَذَا وَكَذَا! كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْصُرَهُمْ، وَتَفْعَلَ! فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَأَصَحُّ التَّأْوِيلَاتِ عِنْدَنَا بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا، وَهُوَ: “ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} “، الْزَمُوا الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ “ {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} “، يَقُولُ: فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ إِذَا أَنْتُمْ لَزِمْتُمُ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَأَدَّيْتُمْ فِيمَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ مَا أَلْزَمَكُمْ اللَّهُ بِهِ فِيهِ، مِنْ فَرْضِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَرْكَبُهُ أَوْ يُحَاوِلُ رُكُوبَهُ، وَالْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ إِذَا رَامَ ظُلْمًا لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهِدٍ وَمَنَعَهُ مِنْهُ فَأَبَى النُّزُوعَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا ضَيْرَ عَلَيْكُمْ فِي تَمَادِيهِ فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ، إِذَا أَنْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ وَأَدَّيْتُمْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُومُوا بِالْقِسْطِ، وَيَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَمِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، الْأَخْذُ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ. وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا مَعَ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَلَوْ كَانَ لِلنَّاسِ تَرْكُ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى، إِلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ ذَلِكَ، وَهِيَ حَالُ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ بِالْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، فَيَكُونُ مُرَخَّصًا لَهُ تَرْكُهُ، إِذَا قَامَ حِينَئِذٍ بِأَدَاءِ فَرْضِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ. وَإِذَا كَانَ مَا وَصَفْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ بِالْآيَةِ أَوْلَى، فَبَيِّنٌ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: “ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ “، مَا قَالَهُ حُذَيْفَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ: “ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ “، وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ: اعْمَلُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، وَمُرُوا أَهْلَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ وَمَا حَادَ عَنْ سَبِيلِي بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَإِنْ قَبِلُوا، فَلَهُمْ وَلَكُمْ، وَإِنْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَإِنَّ إِلَيَّ مَرْجِعَ جَمِيعِكُمْ وَمَصِيرَكُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَصِيرَهُمْ، وَأَنَا الْعَالِمُ بِمَا يَعْمَلُ جَمِيعُكُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأُخْبِرُ هُنَاكَ كُلَ فَرِيقٍ مِنْكُمْ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُجَازِيهِ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلَيَّ جَزَاءَهُ حَسَبَ اسْتِحْقَاقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ عَمَلُ عَامِلٌ مِنْكُمْ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ أُنْثَى.
|